ربما يبدو الحديث مجددًا عن أسباب نكسة 5 يونيو حديثًا مملاً وذلك بالنظر إلي مئات النظريات التي قيلت هنا وهناك علي مدار 41 عامًا وإلي مئات الأوراق والأحبار التي أريقت للحديث عن هذه الأسباب. لكن هذه النكسة المؤلمة ما زالت آثارها المدمرة تعيش بيننا حتي الآن وتؤثر علي العرب وموقعهم ودورهم في التاريخ ووزنهم وكيانهم السياسي في العالم، هذا علاوة -وقبل كل شيء- علي أن هذه النكسة كانت نكسة مصرية بالأساس! لو نظرنا إلي تاريخ مصر الطويل سواء القديم أو الأوسط أو الحديث فإن مصر لم تذق نكسة بحجم هذه النكسة اللهم إلا غزو الهكسوس واحتلالهم لمصر لمدة 500 عام تقريبًا! إلي أن نجح أحمس في طردهم وتحرير البلاد بالكامل منهم.
من أهم النظريات والأسباب التي قيلت حول هذه النكسة هي بلا شك النظرية التي قدمها الأستاذ محمد حسنين هيكل في مجموعة كتبه عن ثورة يوليو وخاصة كتاب «الانفجار» وهي النظرية المعروفة التي تقوم علي المؤامرة. فعلي حد الوثائق التي قدمها الأستاذ هيكل فإن القوي الغربية وعلي رأسها الولايات المتحدة ومعها إسرائيل لم تنس علي أية حال ما فعله عبد الناصر في 1956 وخروجه منتصرًا سياسيًا منها ولذلك وضعت خطة للإيقاع بعبد الناصر وسموها «عملية اصطياد الديك»! وهنا من الواضح أن الأستاذ هيكل يشير إلي نظرية «مؤامرة طويلة الأمد» بدأت 10 سنوات علي الأقل قبل 1967. ولكن هناك من يشير إلي نظرية المؤامرة أيضًا كسبب رئيسي لنكسة 5 يونيو 1967 ولكن بعكس الأستاذ هيكل يراها مؤامرة قصيرة الأمد. وأبرز مروج لهذه النظرية هو الأستاذ أحمد حمروش الذي يري أن خيوطها بدأت بالتحديد منذ 1965 أي بعامين فقط قبل 1967 أو جاءت بالتحديد عقب مؤتمر القمة العربي الثاني في الإسكندرية في سبتمبر 1964 ثم مؤتمر ثالث في الدار البيضاء في 1965 وأعلن عبد الناصر أن هدفه الواضح القادم هو تحرير فلسطين؛ مما دعا إسرائيل وأمريكا وألمانيا الغربية وبريطانيا إلي الإيقاع بعبد الناصر؛ حتي جاءت الفرصة في يونيو 67. وهناك من رأي بعد ذلك أن الاتحاد السوفييتي لعب دورًا في هذه المؤامرة من خلال تحذيره الوهمي لعبد الناصر بوجود حشود إسرائيلية لغزو سوريا. وتعددت النظريات وتوالت بعد ذلك فهناك من رأي أنها كانت غضبًا إلهيًا علي عبد الناصر والشيخ الشعراوي له قول مشهور أكد فيه أنه صلي ركعتين شكرًا لله علي الهزيمة؛ لأننا حاربنا بسلاح روسي ملحد! وآخر تفسير في هذا السياق ما ذكره أيمن الظواهري في رسالته الأخيرة بأن سبب النكسة هو «المناهج المنحرفة العلمانية». وفي رأيي أن كل هذه النظريات تكشف مجرد جانب بسيط من السبب الأكبر لنكسة يونيو 1967. وأعتقد أنه كلما سار بنا الزمن وابتعد عن 1967 كلما تبين لنا أن السبب الأكبر لهذه النكسة التاريخية هو غياب الديمقراطية وسيادة ما يمكن تسميته نظام «فراعين العسكر» فقد تعرضنا في مصر لحكم الفراعنة القدامي الذين كانوا آلهة أو شبه آلهة ثم حكمنا فراعنة الغزاة الرومان واليونان ثم تتابع الزمن حتي العثماني وأخيرًا فراعنة الولاة والخديويين والسلاطين والملوك من أسرة محمد علي إلي أن انتهينا إلي حكم -فراعين العسكر- الذين جلبتهم ثورة يوليو 1952. وبلا شك فإن مؤسس هذا النظام المستبد هو جمال عبد الناصر الذي قدم نفسه للناس علي أنه أول مصري يحكم المصريين أو كما كان يحب أن يصف نفسه أو يصفه الآخرون في ذلك الوقت بأنه «رجل جاد في موعده مع القدر». ورغم حبي لعبد الناصر ولمن لا يعرف فإن اسم كاتب المقال جاء علي اسم عبد الناصر، إلا أن هذا الحب لا يجب أن يطغي علي الحقيقة. والحقيقة أن عبد الناصر تصور نفسه منذ البداية كرجل أرسله القدر لإنقاذ مصر ولعله لهذا كان متأثرًا جدًا بكتاب «عودة الروح» لتوفيق الحكيم! والتي أشار فيها الحكيم إلي نظرية الكل في واحد أو بمعني آخر يأتي حاكم يكون تجسيدًا لآمال شعب كله! وزادت هذه الفكرة رسوخًا في التركيبة العقلية لعبد الناصر بعد الانتصار السياسي الضخم لعام 1956. لكن هذه النظرية ما هي إلا صورة أخري من الحكم الفرعوني المستبد وكان هذه المرة حكمًا فرعونيًا عسكريًا لا يقبل الديمقراطية بأي حال ولا يقبل أي رأي سوي الإله الفرعون الذي هو هذه المرة الفرعون العسكري. شاهدنا من 56 إلي 1967 كيف تحولت مصر إلي دولة مخابرات مغلقة مصابة بحالة «بارانويا» من العالم الخارجي، بينما ترك عبد الناصر الجيش بالكامل في يد صديق عمره عبد الحكيم عامر. كان الأمر أشبه بقسمة بين الصديقين الأول يتحول فرعون شبه إله والثاني يسيطر علي الآلة العسكرية بالكامل! نعم لقد حرر عبد الناصر مصر من الاحتلال الإنجليزي ولكنه أبقي علي نفس صورة الاستبداد في العصر الملكي ولكن هذه المرة في صورة أبشع هي الاستبداد الفرعوني العسكري الذي محا حرية الرأي والاختلاف والتعبير حتي صحونا جميعًا علي أكبر نكسة في حياتنا وتاريخنا الحديث! لقد استمر هذا الحكم «الفرعوني العسكري» يجلب الكوارث تلو الكوارث بعد عبد الناصر. في عهد السادات اشترك الفساد مع استبداد العسكر مع تفشي الدروشة الدينية! حتي شاهدنا أول فرعون من العصر الحديث مدرجًا في دمائه علي مرأي ومسمع من العالم. أما مبارك فقد رسَّخ هذا النظام وطوَّره حتي أصبح الآن علي وشك الدخول في «الحكم الفرعوني العسكري التوريثي»! فمع كل ما كان عليه ناصر والسادات من استبداد إلا أن الجموح لم يصل بهما لما يريده حسني مبارك الآن في التوريث ولكن للأسف النظام الفرعوني العسكري يسمح بكل هذا. عبد الناصر هو المتسبب الأساسي في نكسة يونيو 1967 ونظام الحكم الفرعوني العسكري الذي أسسه هو الذي أصابنا بجميع النكسات بعد ذلك وخلاصنا من هذا النظام هو السبيل لخلاصنا من كل النكسات!