لا يخفي عليكم معشر القراء الكرام - ومؤكد يخفي علي الحكومة - أن النظر لابد منه في درس كل مشكلة وإصدار أي قرار وإجراء أي تغيير، كما لا يخفي عليكم أن النظر ليس البصر وإنما البصيرة، وقد يخفي ذلك علي الحكومة أيضاً، رغم أن شيئاً لا يخفي عليها، والحكومة تتمتع بالنظر بمعني البصر وإن كان قليلاً، ولديها بعض الفكر وإن كان قليلاً، وفي أغلب الأحيان عليلاً.
لدي الحكومة بصر؛ لأن لديها عيوباً، عيوباً تري بها «وتحسس» وخاصة عندما تعد النقود التي «كوشت» عليها من بيع القطاع العام، وعيوناً تري بها مصالح الحزب الوطني ورجاله، ومكاسب الوزراء الذين تم اختيارهم بسبب أصولهم الرأسمالية، ولدي الحكومة عيون تغمضها عن أحوال المصريين التعساء، وعيون تغمضها أيضاً حتي لا تري أن كل شيء في مصر تم نهبه، ولم يعد يتبقي من مصر غير الفقراء!
كما أن لديها عيوناً بمعني الجواسيس والبصاصين الذين لهم أدوار كبري في البحث عن الأعداء.. أعداء الحكومة البراجماتية.. فهم في كل مكان ينتشرون بحثاً عمن يودون الاحتجاج ويفكرون في الاعتصام، ويزمعون الإضراب، لتعمل علي الفور أجهزة التوكي توكي وما تلاها من أجهزة الاتصال الحديثة لتوجيه سيارات الأمن المركزي محتشدة بالرجال ذوي الزي الأسود والأحذية الثقيلة، والعصي والتهديدات الصوتية الجهيرة والقنابل المسيلة للدموع، بل والرشاشات إذا لزم الأمر، لكي يتم إسكات أي متمرد! ويفضل التخلص منه حتي لا يزعج الحكومة التي تحتاج إلي التركيز لإصدار قرارات عشوائية فريدة.
هذا هو نظر الحكومة الوحيد، أما النظر بمعني الفكر والتخطيط والدراسات العلمية، وتأمل حركة التاريخ وقراءة دقيقة لآليات العمل في الدول المتقدمة وظروف وإمكانات الشعب المصري المنهك، فهذا ما تفتقده بشدة، لأن الفكر منصرف إلي تثبيت الكراسي وتملق الرئيس وتأكيد السير في ضوء برنامجه وعلي هدي فكره المتجدد، فضلاً عن العمل علي تحقيق مصالح الأقلية التي يمتلك كل فرد منها ما يزيد علي خمسين مليوناً من الجنيهات ويحظي بالرعاية كذلك آله وذووه، ومن له حق عليهم.
إذا كان لدي الحكومة نظرا بمعني البصيرة، فلماذا حدث العبث بالمحافظات علي النحو العالمي الذي تم منذ شهر ونصف، وهو من القرارات التي تمثل ثورة في عالم الإدارة. إذا كان لدي الحكومة نظر فما معني أن يصدر قرار رئاسي بمنح العاملين علاوة 30% «علي فرض أنها منحت» قبل تحديد مصدرها والمنابع التي ستغطيها؟.. وهل لدي المحروسة نظر وهي لاتزال تلقي بسيناء في مهاوي النسيان وآبار الإهمال، وتغلق عليها أبواب الثلاجة الصدئة رغم مرور ربع قرن علي انتزاعها من يد الكيان الصهيوني الأسود؟!
إذا كانت الحكومة تتمتع بالنظر فهل كان حال الزراعة المصرية يصل إلي أدني مستوياته التي لم يبلغها في ظل نظام الالتزام أيام محمد علي وبنيه حيث كان الفلاح يرزح تحت طائلة الضرائب الباهظة والجمع المتواصل لها عدة مرات في العام! كلما احتاج الحاكم أن يقوم بحملة، أو يذهب للحج، أو يبني قصراً أو يستقبل ضيوفاً، والحكومة بلا نظر بدليل أحوال القاهرة، وأحوال التعليم والصناعة وهيمنة البيروقراطية والبطالة، ومشكلات البيئة، والصحراء التي لازالت صحراء.. وهي بلا نظر؛ لأن ما ينفق علي المظهرية الرسمية والأبهة الحكومية يكفي لاستصلاح الصحراء المصرية!
كنت أحسب أن مشكلة الحكومة في البصر، عندئذ كنا سنجمع لها الأموال لتجهيز نظارة كبيرة تناسبها!. لكن المشكلة أنها بلا نظر يا ولداه.. وعلي كل حال العتب ليس علي الحكومة.. العتب ع النظر، ربنا يحفظكم!