حتي سحرة فرعون آمنوا
لاحظ ليس مجرد سحرة لكنهم سحرة فرعون، ولا يفلح الساحر حيث أتي قطعا، لكن الساحر لا يقتنع بذلك غالباً بل تتملكه مشاعر العظمة والقوة حيث يتصور نفسه شخصا خارقاً قادراً علي الإتيان بالمعجزات وتسخير الجميع لما يريد ويبغي، فيشعر أنه ينتزع من الله عز وجل شيئاً من مشيئته «حاشا لله»، لكن الساحر متغطرس بقوته، مغتر بسحره، منتفخ بذل الناس له، متعال بتوسل الناس به، ولما يكون هذا الساحر هو رجل فرعون الحاكم الإله فقد جمع إذن بين السلطة الجبارة للسحر والسلطة الجبروتية للطغيان السياسي الحاكم، لك أن تتصور إذن مشاعر السحرة وهم يذهبون إلي يوم الزينة لتحدي سيدنا موسي عليه السلام، فعند ذلك أرسل فرعون في مدائن ملكه وسلطنته، فجمع سحرة متفرقين من سائر الأقاليم ببلاد مصر، ممن اختار هو والملأ من قومه، وأحضرهم عنده ووعدهم بالعطاء الجزيل. وقد كانوا من أحرص الناس علي ذلك، وعلي الظهور في مقامهم ذلك والتقدم عند فرعون، وموسي، عليه السلام، لا يعرف أحداً منهم ولا رآه ولا اجتمع به، وفرعون يعلم ذلك، كانوا إذن علي درجة هائلة من الاطمئنان الجهول من راحة تامة وهدوء كامل وغرور مطلق ورغبة عارمة في خدمة الفرعون ودفاعاً كذلك عن وجودهم وبقائهم ومصالحهم التي يرتعون فيها مستفيدين من سحرهم الذي يتلاعبون به في عقول العامة ومن قربهم وتحالفهم وخدمتهم لفرعون الذي يستفيد من سحرهم، حيث وضعوه في خدمة القصر الفرعوني والسياسة الفرعونية يسهمون في عبودية الشعب لفرعون وتغييب الناس عن حقوقهم لصالح الحاكم المقدس الذي لا يصل له نقد ولا يطاله هجوم ولا ينازعه أحد ولا ينافسه شخص، ويستفيدون من حمايته ودعمه فتزداد ثرواتهم وعزتهم بالإثم، الناس أنفسهم شعب مصر كانوا مثلما تعودنا واعتدنا من شعب مصر علي مدي تاريخه «وحاضره» عندما تقرأ في التفسير مثلا أنه قد اجتهد الناس في الاجتماع ذلك اليوم «يقال إن يوم الزينة هو يوم شم النسيم» وقال قائلهم: «لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ»، قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ»، ولم يقولوا: نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسي، بل الرعية «المصريين.. تأمل منذ الأزل لا أمل!!» علي دين ملكهم. «فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ» إلي مجلس فرعون وجمع حشمه وخدمه «وأمراءه» ووزراءه ورؤساء دولته وجنود مملكته، قام السحرة بين يدي فرعون يطلبون منه الإحسان إليهم والتقرب إليه إن غلبوا، أي: هذا الذي جمعتنا من أجله، فقالوا: «أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ».. غواية فرعون الجديدة لهم هي الاستجابة لمطالبهم، وأجعلكم من المقربين عندي وجلسائي، وهو ما يعني أن السحرة كانوا علي درجات لديه فمنهم الذي كان مقرباً منعماً حليفاً، ومن كان يحلم بالاقتراب والالتصاق به أكثر لمغانم أقوي، ويبدو أنهم كانوا سحرة كثيري العدد بل تعتقد حين تقرأ بعض التفاسير وهي تختلف في عددهم أن مصر كلها كانت شعباً من السحرة تقريبا وقد اختلفوا في عدد السحرة فذكروا أرقاما بدءا من أربعين حتي سبعين ألف ساحر، وفي تفسير ابن كثيرأن محمد بن إسحاق قال: صَفّ خمسة عشر ألف ساحر، مع كل ساحر حباله وعصيه، وخرج موسي، عليه السلام، معه أخوه يتكئ علي عصاه، حتي أتي الجمع، وفرعون في مجلسه مع أشراف أهل مملكته، ثم قال السحرة: «يَا مُوسَي إِمَّا أَنْ تُلْقِي وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَي * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ».. «طه:65، 66» فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسي وبصر فرعون، ثم أبصار الناس بعد، ثم ألقي كل رجل منهم ما في يده من الحبال والعصي فإذا حيات كأمثال الجبال، قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا.
وقال السُّدِّي: كانوا بضعة وثلاثين ألف رجل، ليس رجل منهم إلا ومعه حبل وعصا.
وقال ابن جرير: جمع فرعون سبعين ألف ساحر، فألقوا سبعين ألف حبل، وسبعين ألف عصا، حتي جعل يخيل إليه من سحرهم أنها تسعي ؛ ولهذا قال تعالي: «وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ».. قطعًا العدد مبالغ فيه جدا خصوصا مع إدراكنا أن عدد سكان مصر وقتها لا يمكن أن يكون ربعه مثلا من السحرة، وغالب الظن أن العدد أربعين فقط، والذي ذكره ابن عباس هو الأدق حين يفسر قوله تعالي: «وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ» قال: أخذ فرعون أربعين غلامًا من بني إسرائيل فأمر أن يُعَّلموا السحر بالفَرَمَا «بصعيد مصر»، وقال: علموهم تعليمًا لا يعلمه أحد في الأرض. قال ابن عباس: فهم من الذين آمنوا بموسي، وهم من الذين قالوا: «« إِنَّا» آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ».
لكن هذا كله يوحي بأن فرعون وراء تعلم وتعليم السحر للاستفادة منه وبه، ثم هو كذلك يؤكد علي السماح بالسحر لإلهاء و«إغماء» الناس، وكذلك برهان علي حجم انتشار السحر وتأثير وامتداد وتمدد ونفوذ السحرة، لكن تفسير ابن عباس يشير بالتأكيد إلي أن ثمة جذوة إيمان أو جذر عبودية لله موجود في قلوب هؤلاء بدليل أنه لحظة الجد وساعة الحقيقة انطلق إيمانهم من مخزون المشاعر الراكدة والمخبوءة في صدورهم، ومع ذلك ولكل ذلك آمن سحرة فرعون برب هارون وموسي، وحين رأوا معجزة النبي موسي خروا وسجدوا وأعلنوا إيمانهم، أي أن هؤلاء السحرة بكل ما لديهم من غرور وعتو وسحر وقوة وقدرة آمنوا ولم يعاندوا كانوا، أول النهار سحرة فجرة، وفي آخر النهار شهداء بررة، لكن فرعون عاند!
تفتكر ليه؟
لماذا آمن السحرة فورا وفعلا، بينما أصر فرعون علي الضلال واستمسك بالظلم ولم يصدق الحقيقة الناصعة الساطعة وهي أن الحق ينتصر والجور ينكسر، هنا تستحق الإجابة الرجوع إلي المفكر سيد قطب في كتابه التفسيري المدهش «في ظلال القرآن» وأرجو ونحن نتأمل ما كتبه أن ننسي أنه صاحب «معالم علي الطريق» وغيره من الكتابات والكتب التي قد تدفعك للاندفاع إلي مخالفته وتوقف فقط عند هذا الكتاب «في ظلال القرآن» لأنه خلاصة في تفسير التفاسير القرآنية تستوجب احترام ما كتب، لا أقول مناصرة ما كتب فلأحكام الناس من الهوي نصيب ومن ظلال القرآن لسيد قطب نقرأ «إن الطواغيت يرون مع أصحاب الدعوات آيات، إما خارقة كآيات موسي، وإما مؤثرة في الناس تأخذ طريقها إلي قلوبهم وإن لم تكن من الخوارق. فإذا الطغاة يقابلونها بما يماثلها ظاهرياً.. سحر نأتي بسحر مثله! كلام نأتي بكلام من نوعه! صلاح نتظاهر بالصلاح! عمل طيب نرائي بعمل طيب وهكذا طلب فرعون إلي موسي تحديد موعد للمباراة مع السحرة.. وترك له اختيار ذلك الموعد: للتحدي: «فاجعل بيننا وبينك موعدا» وشدد عليه في عدم إخلاف الموعد زيادة في التحدي «لا نخلفه نحن ولا أنت». وأن يكون الموعد في مكان مفتوح مكشوف: «مكاناً سوي» مبالغة في التحدي!
وقبل موسي عليه السلام تحدي فرعون له؛ واختار الموعد يوم عيد من الأعياد الجامعة، يأخذ فيه الناس في مصر زينتهم، ويتجمعون في الميادين والأمكنة المكشوفة؛ «قال: موعدكم يوم الزينة». وطلب أن يجمع الناس ضحي، ليكون المكان مكشوفاً والوقت ضاحياً. فقابل التحدي بمثله وزاد عليه اختيار الوقت في أوضح فترة من النهار وأشدها تجمعاً في يوم العيد. لا في الصباح الباكر حيث لا يكون الجميع قد غادروا البيوت. ولا في الظهيرة فقد يعوقهم الحر، ولا في المساء حيث يمنعهم الظلام من التجمع أو من وضوح الرؤية..!!
وانتهي المشهد الأول من مشاهد اللقاء بين الإيمان والطغيان في الميدان.. وهنا يسدل الستار ليرفع علي مشهد المباراة: كما يقول سيد قطب ويتوقف عنده الآن:
«فتولي فرعون فجمع كيده ثم أتي».. ويجمل السياق في هذا التعبير كل ما قاله فرعون وما أشار به الملأ من قومه، وما دار بينه وبين السحرة من تشجيع وتحميس ووعد بالمكافأة، وما فكر فيه وما دبر هو ومستشاروه.. يجمله في جملة: فتولي فرعون فجمع كيده ثم أتي. وتصور تلك الآية الواحدة القصيرة ثلاث حركات متوالية: ذهاب فرعون، وجمع كيده، والإتيان به.
ورأي موسي عليه السلام قبل الدخول في المباراة أن يبذل لهم النصيحة، وأن يحذرهم عاقبة الكذب والافتراء علي الله، لعلهم يثوبون إلي الهدي، ويدعون التحدي بالسحر، والسحر افتراء:
«قال لهم موسي: ويلكم! لا تفتروا علي الله كذباً فيسحتكم بعذاب، وقد خاب من افتري».
والكلمة الصادقة تلمس بعض القلوب وتنفذ فيها. ويبدو أن هذا الذي كان؛ فقد تأثر بعض السحرة بالكلمة المخلصة، فتلجلج في الأمر؛ وأخذ المصرون علي المباراة يجادلونهم همساً خيفة أن يسمعهم موسي:
«فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوي»..
وجعل بعضهم يحمس بعضاً، وراحوا يهيجون في المترددين الخوف من موسي وهارون، اللذين يريدان الاستيلاء علي مصر وتغيير عقائد أهلها؛ مما يوجب مواجهتهما يداً واحدة بلا تردد ولا نزاع.
وقد يبدو الباطل ضخماً فخماً، مخيفاً لمن يغفل عن قوة الحق الكامنة الهائلة التي لا تتبختر ولا تتطاول ولا تتظاهر؛ ولكنها تدمغ الباطل في النهاية، فإذا هو زاهق وتلقفه فتطويه، فإذا هو يتواري.
وألقي موسي.. ووقعت المفاجأة الكبري. والسياق يصور ضخامة المفاجأة بوقعها في نفوس السحرة الذين جاءوا للمباراة فهم أحرص الناس علي الفوز فيها، والذين كانوا منذ لحظة يحمس بعضهم بعضاً ويدفع بعضهم بعضاً. والذين بلغت بهم البراعة في فنهم إلي حد أن يوجس في نفسه خيفة موسي.
ويخيل إليه وهو الرسول أن حبالهم وعصيهم حيات تسعي! يصور السياق وقع المفاجأة في نفوسهم في صورة تحول كامل في مشاعرهم ووجدانهم، لا يسعفهم الكلام للتعبير عنه؛ ولا يكفي النطق للإفضاء به:
«فألقي السحرة سجداً. قالوا: آمنا برب هارون وموسي».. إنها اللمسة تصادف العصب الحساس فينتفض الجسم كله. وتصادف «الزر» الصغير فينبعث النور ويشرق الظلام. إنها لمسة الإيمان للقلب البشري تحوله في لحظة من الكفر إلي الإيمان.
ولكن أني للطغاة أن يدركوا هذا السر اللطيف؟ أني لهم أن يدركوا كيف تتقلب القلوب؟ وهم قد نسوا لطول ما طغوا وبغوا، ورأوا الأتباع ينقادون لإشارة منهم، نسوا أن الله هو مقلب القلوب؛ وأنها حين تتصل به وتستمد منه وتشرق بنوره لا يكون لأحد عليها سلطان:
«قال: آمنتم له قبل أن آذن لكم؟ إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقي».
«آمنتم له قبل أن آذن لكم».. قولة الطاغية الذي لا يدرك أنهم هم أنفسهم لا يملكون وقد لمس الإيمان قلوبهم أن يدفعوه عنها، والقلب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء.
«إنه لكبيركم الذي علمكم السحر».. فذلك سر الاستسلام في نظره، لا أنه الإيمان الذي دب في قلوبهم من حيث لا يحتسبون. ولا أنها يد الرحمن تكشف عن بصائرهم غشاوة الضلال.
ثم التهديد الغليظ بالعذاب الغليظ الذي يعتمد عليه الطغاة؛ ويسلطونه علي الجسوم والأبدان حين يعجزون عن قهر القلوب والأرواح: «فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل».
ثم الاستعلاء بالقوة الغاشمة. قوة الوحوش في الغابة. القوة التي تمزق الأحشاء والأوصال، ولا تفرق بين إنسان يقرع بالحجة وحيوان يقرع بالناب: «ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقي»!
ومن خيط ما كتب سيد قطب نشد نسيجنا ونقول إننا إذن أمام الظاهرة الفرعونية التي تتزود إلي جانب فرعون بهامان «الدعاية والثقافة والكهانة ـ الإعلام والتعليم ورجال الدين» وقارون «المال والثروة وتربح رجال المال والأعمال بالسياسة وفساد رجال السياسة بالمال ثم التمويل لحملات الطغيان، ثم استثمار الحصانة في الثروة وتحصين الثروة بالسياسة» ولهذا حين يؤمن سحرة فرعون لا يؤمن لا فرعون ولا هامان ولا قارون، وحين يغرق فرعون يغرق والذين معه «فأغرقناه والذين معه»، ثم علي الناحية الأخري شعب راضخ خاضع مُستعبد لا يحس ولا يتحرك ولا يثور ولا يستهجن، يري الفساد فيصمت، يعيش الاستبداد فيخنع، يشهد مذابح لفئة مضطهدة من الأمة فيتواطأ ولا يرفض ويري إيمان السحرة فلا يُستنفر ولا يستنهض همته، ويسمع رجلا من أقصي المدينة يسعي فلا يستجيب ولا يستجار فيجير، طول الوقت لا تستكمل الظاهرة الفرعونية إلا بظاهرة الشعب المكتوم والمكلوم بجبنه وصمته، ولا يحدث تغيير إلا بحدث إلهي هائل وتدخل قدري معجز «شق البحر ـ نجاة موسي ـ عبور فرعون ـ فوران البحر ـ غرق فرعون»، لهذا حين تسأل: وهل تنطبق سمات فرعون علي حاكمنا وهل يحكمنا فرعون؟ أجب عن سؤال مبدئي وبدهي وتمهيدي أهم وهو: هل شعبنا ينطبق عليه ما ينطبق علي شعب فرعون فإن تطابق ما نحن عليه بما نحن فيه فالإجابة الوحيدة أن فرعون لا يحكم أبدا إلا شعب فرعون.. وربنا ينجينا كلنا من فرعون وعمله وأهله.. وشعبه!