التصريحات التى ادلى بها المهندس رشيد محمد رشيد، وزير التجارة والصناعة، حول وضع تسعيرة جديدة للغاز، الذي تحصل عليه مصانع الأسمدة والبتروكيماويات، تعني أن الحكومة المصرية باتت تدرك أن نزيف الدعم المهدر هو أخطر مشكلة تواجه البلد الآن.. وفي ظني أن رشيد من الوزراء القلائل الذين يتحلون بالشجاعة في اتخاذ القرارات الصائبة، حتي لو نتج عنها هجوم وانتقاد من أصحاب المصالح والمستثمرين، الذين اعتادوا «شفط مليارات الدعم في بطون مصانعهم الضخمة».
غير أن هذا القرار، الذي سيقضي ببيع الغاز لهذه المصانع بالسعر العالمي، لتوفير مليارات الدعم، يفجر تساؤلات صادمة، يحلو للحكومة تجاهلها، رغم صراخنا المستمر.. فعلي مدي الساعات الأخيرة يتابع العالم كله نزيف الدم الفلسطيني، في واحدة من كبري الهجمات الوحشية الإسرائيلية علي الأبرياء.. وتتزامن هذه الحرب أو «المحرقة» - سمها كما شئت - مع بدء إمدادات الغاز الطبيعي المصري إلي إسرائيل، وكأنه لا رابط - إطلاقاً - بين الدم العربي الذي «يسيل»، والغاز المصري الذي «يسيل» في الوقت ذاته.. فهل كان من اللائق سياسياً أن يتم تعليق اتفاقية تصدير الغاز إلي إسرائيل، بسبب «محرقة الأبرياء»؟!
سوف أترك الإجابة لـ«مطبخ السياسة المصرية».. فقد اعتدنا مثل هذه المفارقات.. ولكن للقضية وجهاً آخر، شديد التناقض.. ففي الوقت الذي تعيد الحكومة فيه تسعير الغاز لمصانعنا «المصرية»، لاتزال الحكومة نفسها تصر علي تصدير الغاز لدول عديدة، ومنها إسرائيل، بأسعار زهيدة، وهو ما يعني أن المواطن المصري يدفع من «جيبه وماله»، دعماً للمواطن الإسرائيلي.. وأنا أدعو أي مسؤول مصري - كبر أو صغر - أن يصحح لي الأرقام التالية، إذا كان فيها أي خطأ، مع علمي أنها سليمة مائة في المائة.
العقد المصري - الإسرائيلي لتصدير الغاز مدته ٢٠ عاماً كاملة، بسعر ١.٥ دولار للمليون وحدة حرارية، بينما يتكلف الإنتاج في مصر ٢.٦٥ دولار للمليون وحدة حرارية، وهو السعر الذي حددته الحكومة لبيع الغاز للمصانع «المصرية» كثيفة الاستخدام للطاقة، خلال السنوات الثلاث المقبلة.. أي أن حكومتنا حرمت المصانع المصرية، التي تنتج، وتستوعب أيدي عاملة، وتصدر منتجاتها للخارج من الدعم - وهذا حق - بينما منحته صافياً - خالصاً - مخلصاً لإسرائيل.. الدولة الصديقة، والشقيقة الغالية!!
العقد المصري - الإسرائيلي يمنح تل أبيب الحق في الحصول علي ٧ مليارات متر مكعب في السنة الواحدة.. ويمنحها الحق أيضاً في الحصول علي أي كمية من هذا العقد كل عام، ووسيط التصدير هو شركة «
EMG»، وملاكها مصريون وإسرائيليون، وتمتلك الشركة المصرية القابضة للغازات «حكومية» ١٠% من هذه الشركة..
ويؤكد خبراء الطاقة أن احتياطي مصر من الغاز الطبيعي لا يكفي الاستهلاك المحلي، والتصدير خلال هذه الفترة، والدليل أن مصر أرادت حل مشكلة ارتفاع أسعار الأسمنت، فتقدم ما يزيد علي ٥٠ مستثمراً، للحصول علي رخصة مصنع أسمنت، فمنحت الحكومة الرخصة لـ١٦ فقط في مزايدات، لأن إنتاج الغاز لا يكفي للمزيد من المصانع.. ومع ذلك نصدر الغاز لإسرائيل بـ«سعر التراب»!!
في مصر محطات توليد كهرباء تعمل بالمازوت.. وأخري «غازية»، أي تعمل بالغاز.. ويتكلف إنتاج الكهرباء باستخدام المازوت ٧ دولارات للمليون وحدة حرارية.. بينما يتكلف إنتاج الكهرباء باستخدام الغاز ٢.٦٥ دولار للمليون وحدة حرارية.. ونظراً لنقص إنتاج الغاز المصري، اضطرت الحكومة لتشغيل محطات الكهرباء «الغازية» بالمازوت، وتحملت الموازنة العامة للدولة «أموال الشعب» فارق التكلفة الضخم - بين المازوت والغاز - ومع ذلك نصدر الغاز لإسرائيل بـ«سعر التراب»..!!
لدي معلومات أخري سنعود إليها.. ولكنني أتحدي أي مسؤول في مصر أن يجيب علي هذه الأسئلة: لماذا نصدر الغاز لإسرائيل بهذا الكرم الحاتمي؟! وكم يدفع المواطن المصري دعماً لشقيقه الإسرائيلي؟!.. ومن أبرم هذا العقد.. وكيف.. ومن يحاسب المسؤول.. أم أننا سنظل نواجه الإجابة نفسها: الصمت المريب..!